فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والقرى عام في القرى الظالمة، والظلم يشمل ظلم الكفر وغيره.
وقد يمهل الله تعالى بعض الكفرة.
وأما الظلمة في الغالب فمعاجلون، وفي الحديث: «إن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته». ثم قرأ: وكذلك أخذ ربك إذًا.
وقرأ أبو رجاء والجحدري: وكذلك أخذ ربك، إذ أخذ على أنّ أخذ ربك فعل وفاعل، وإذ ظرف لما مضى، وهو إخبار عما جرب به عادة الله في إهلاك من تقدم من الأمم.
وقرأ طلحة بن مصرف: وكذلك أحذ ربك هذا أخذ.
قال ابن عطية: وهي قراءة متمكنة المعنى، ولكن قراءة الجماعة تعطي الوعيد واستمراره في الزمان، وهو الباب في وضع المستقبل موضع الماضي، والقرى مفعول بأخذ على الإعمال إذ تنازعه المصدر وهو: أخذ ربك، وأخذ، فاعمل الثاني وهي ظالمة جملة حالية إن أخذه أليم موجع صعب على المأخوذ.
والأخذ هنا أخذ الإهلاك.
إنّ في ذلك أي: فيما قص الله من أخبار الأمم الماضية وإهلاكهم لآية لعلامة لمن خاف عذاب الآخرة، أي: إنهم إذا عذبوا في الدنيا لأجل تكذيبهم الأنبياء وإشراكهم بالله، وهي دار العمل فلأن يعذبوا على ذلك في الآخرة التي هي دار الجزاء أولى، وذلك أنّ الأنبياء أخبروا باستئصال من كذبهم، وأشركوا بالله.
ووقع ما أخبروا به وفق إخبارهم، فدل على أنّ ما أخبروا به من البعث والجزاء صدق لا شك فيه.
قال الزمخشري: لآية لمن خاف لعبرة له، لأنه ينظر إلى ما أحل الله بالمجرمين في الدنيا، وما هو إلا أنموذج مما أعد لهم في الآخرة، فإذا رأى عظمته وشدته اعتبر به من عظيم العذاب الموعود فيكون له عظة وعبرة ولطفًا في زيادة التقوى والخشية من الله ونحوه: {إِنَّ في ذَلِكَ لَعِبْرَةً لّمَن يَخْشَى} ذلك إشارة إلى يوم القيامة الدال عليه قوله عذاب الآخرة والناس مفعول لم يسم فاعله رافعه مموع وأجاز ابن عطية أن يكون الناس مبتدأ ومجموع خبر مقدم وهو بعيد لإفراد الضمير في مجموع وقياسه على إعرابه مجموعون ومجموع له الناس عبارة عن الحشر ومشهود عام يشهده الأولون والآخرون من الإنس والجن والملائكة والحيوان في قول الجمهور.
وقال الزمخشري (فإن قلت) أي فائدة في أن أوثر اسم المفعول على فعله (قلت) لما في اسم المفعول من دلالته على ثبات معنى الجمع لليوم وأنه لابد أن يكون ميعاد مضروبًا لجمع الناس له وأنه هو الموصوف بذلك صفة لازمة وهو أثبت أيضًا لإسناد الجمع إلى الناس وأنهم لا ينفكون منه وفيه من تمكن الوصف وثباته ما ليس في الفعل ومعنى مشهود مشهود فيه فاتسع في الجار والمجرور ووصل الفعل إلى الضمير إجراء له مجرى المفعول به على السعة لقوله:
ويومًا شهدناه سليمًا وعامرًا

والمعنى يشهد فيه الخلائق الموقف لا يغيب عنه أحد ومنه قولهم لفلان مجلس مشهود وطعام محضور وإنما لم يجعل اليوم مشهودًا في نفسه كما قال فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ لأن الغرض وصف ذلك اليوم بالهول والعظم وغيره من بين الأيام وكونه مشهودًا في نفسه لا يميزه إذ هو موافق لسائر الأيام في كونها مشهودة وما نؤخره أي ذلك اليوم وقيل يعود على الجزاء قاله الحوفي إلا لأجل معدود أي لقضاء سابق قد نفذ فيه بأجل محدود لا يتقدم عليه ولا يتأخر عنه وقرأ الأعمش وما يؤخره بالياء. اهـ.

.قال أبو السعود:

{ذلك} إشارةٌ إلى ما قُص من أنباء الأممِ وبعده باعتبار تقضّيه في الذكر والخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مبتدأٌ خبرُه: {مِنْ أَنْبَاء القرى} المهلَكة بما جنتْه أيدي أهلِها: {نَقُصُّهُ عَلَيْكَ} خبرٌ بعد خبرٍ أي ذلك النبأُ بعضُ أنباءِ القرى مقصوصٌ عليك: {مِنْهَا} أي من تلك القرى: {قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} أي ومنها حصيد، حُذف لدلالة الأولِ عليه، شُبّه ما بقيَ منها بالزرع القائمِ على ساقه وما عفا وبطَل بالحصيد، والجملةُ مستأنفةٌ لا محل لها من الإعراب.
{وَمَا ظلمناهم}
بأن أهلكناهم: {ولكن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} بأن جعلوها عُرضةً للهلاك باقتراف ما يوجبه: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ} فما نفعتهم ولا دفعتْ بأسَ الله تعالى عنهم: {التى يَدْعُونَ مِن} أي يعبدونها: {دُونِ الله} أُوثر صيغةُ المضارعِ حكايةً للحال الماضيةِ أو دِلالةً على استمرار عبادتِهم لها: {مِن شَئ} في موضع المصدرِ أي شيئًا من الإغناء: {لَّمَّا جَاء أَمْرُ رَبّكَ} أي حين مجيءِ عذابِه وهو منصوبٌ بأغنت، وقرئ آلهتُهم اللاتي ويُدْعَون على البناء للمجهول: {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} أي إهلاك وتخسير فإنهم إنما هلكوا وخسِروا بسبب عبادتِهم لها.
{وكذلك} أي ومثلَ ذلك الأخذِ الذي مر بيانُه، وهو رفعٌ على الابتداء وخبرُه قوله: {أَخْذُ رَبّكَ} وقرئ أخذَ ربُّك فمحلُّ الكافِ النصبُ على أنه مصدرٌ مؤكد: {إِذَا أَخَذَ القرى} أي أهلَها وإنما أُسند إليها للإشعار بَسَريان أثرِه إليها حسبما ذُكر، وقرئ إذْ أخذ: {وَهِىَ ظالمة} حالٌ من القرى وهي في الحقيقة لأهلها لكنها لما أُقيمت مُقامَهم في الأخذ أُجريت الحالُ عليها وفائدتُها الإشعارُ بأنهم إنما أُخذوا بظلمهم ليكون ذلك عبرةً لكل ظالم: {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} وجميع صعب على المأخوذ لا يرجى منه الخلاص وفيه ما لا يخفى من التهديد والتحذير: {إِنَّ في ذَلِكَ} أي في أخذه تعالى للأمم الغابرةِ أو في قصصهم: {لآيَةً} لعبرةً: {لّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخرة} فإنه المعتبرُ به حيث يُستدل بما حاق بهم من العذاب الشديد بسبب ما عملوا من السيئات على أحوال عذابِ الآخرة، وأما من أنكر الآخرةَ وأحال فناءَ العالم وزعم أن ليس هو ولا شيءٌ من أحواله مستندًا إلى الفاعل المختارِ وأن ما يقع فيه من الحوادث فإنما يقع لأسباب تقتضيه من أوضاع فلكيةٍ تتفق في بعض الأوقاتِ لا لما ذُكر من المعاصي التي يقترفها الأممُ الهالكة فهو بمعزل من هذا الاعتبارِ، تبًا لهم ولما لهم من الأفكار: {ذلك} إشارةٌ إلى يوم القيامةِ المدلول عليه بذكر الآخرة: {يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس} للمحاسبة والجزاءِ، والتغييرُ للدلالة على ثبات معنى الجمعِ وتحقق وقوعِه لا محالة وعدم انفكاك الناس عنه فهو أبلغ من قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجمع}، {وَذَلِكَ} أي يومُ القيامة مع ملاحظة عنوانِ جمعِ الناس له: {يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} أي مشهود فيه حيث يشهد فيه أهلُ السموات والأرضين فاتُسع فيه بإجراء الظرفِ مُجرى المفعولِ به كما في قوله:
في محفل من نواصي الناس مشهود

أي كثيرٌ شاهدوه ولو جُعل نفسُ اليوم مشهودًا لفات ما هو الغرضُ من تعظيم اليومِ وتهويلِه وتمييزِه عن غيره فإن سائرَ الأيام أيضًا كذلك: {وَمَا نُؤَخّرُهُ} أي ذلك اليومَ الملحوظَ بعُنوانيْ الجمعِ والشهود: {إِلاَّ لاِجَلٍ مَّعْدُودٍ} إلا لانقضاء مدةٍ قليلةٍ مضروبةٍ حسبما تقتضيهِ الحكمة. اهـ.

.قال الألوسي:

{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ}
{ذلك} إشارة إلى ما قص من أنباء الأمم وبعده باعتبار تقضيه أو باعتبار ما قيل في غير موضع، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مبتدأ خبره: {مِنْ أَنْبَاء القرى} المهلكة بما جنته أيدي أهلها فأل فيها للعهد السابق تقديرًا بذكر أربابها: {نَقُصُّهُ عَلَيْكَ} خبر بعد خبر أي ذلك النبأ بعض أنباء القرى مقصوص عليك؛ وجوز أن يكون من: {أَنْبَاء} في موضع الحال وهذا هو الخبر، وجوز أيضًا عكس ذلك: {مِنْهَا} أي من تلك القرى: {قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} أي ومنها حصيد، فالعطف من عطف الجملة على الجملة وهو الذي يقتضيه المعنى كما لا يخفى، وقد شبه مابقي منها بالزرع القائم على ساقه.
وما عفا وبطل بالحصيد، فالمعنى منها باق، ومنها عاف، وهو المروي عن قتادة، ونحوه ما روى عن الضحاك: {قَائِمٌ} لم يخسف: {وَحَصِيدٌ} قد خسف، قيل: {وَحَصِيدٌ} الزرع جاء في كلامهم بمعنى الفناء كما في قوله:
والناس في قسم المنية بينهم ** (كالزرع منه قائم وحصيد)

وصيغة فعيل بمعنى مفعول أي محصول كما قال الأخفش، وجمعه حصدي، وحصاد مثل مرضي ومراض، وجملة: {مِنْهَا قَائِمٌ} إلخ مستأنفة استئنافًا نحويًا للتحريض على النظر في ذلك والاعتبار به، أو بيانيًا كأنه سئل لما ذكرت ما حالها؟ فأجيب بذلك، وقال أبو البقاء: هي في موضع الحال من الهاء في نقصه، وجوز الطيبي كونها حالًا من القرى، وادعى صاحب الكشف أن جعلها حالًا من ضمير نقصه فاسد لفظًا ومعنى، ومن القرى كذلك، وفي الحواشي الشهابية أراد بالفساد اللفظي في الأول خلو الجملة من الواو والضمير.
وفي الثاني مجيء الحال من المضاف إليه في غير الصور المعهودة، وبالفساد المعنوي أنه يقتضي أنه ليس من المقصوص بل هو حال ارجة عنها وليس بمراد، ولا يسوغ جعل ما بعده ابتداء المقصوص، وفيه فساد لفظي أيضًا.
وزعم بعض أنه أراد بالفساد الأول في الأول ما ذكر.
وفي الثاني وقوع الجملة الاسمية حالًا بالضمير وحده وبالضمير تخصيص كونها مقصوصة بتلك الحالة فإن المقصوصية ثابتة لها وللنبأ وقت قيام بعضها أيضًا، وقد أصاب بعضًا وأخطأ بعضًا، ووجه الحلبي الخلو عن الواو والضمير بأن المقصود من الضمير الربط وهو حاصل لارتباط ذلك بمتعلق ذي الحال وهي القرى، فالمعنى نقص عليك بعض أنباء القرى وهي على هذه الحالة تشاهدون فعل الله تعالى بها، وتعقب بأن الاكتفاء في الربط بما ذكر مع خفائه مذهب تفرد به الأخفش ولم يذكره في الحال وإنما ذكره في خبر المبتدأ، وقول أبي حيان: إن الحال أبلغ في التخويف وضرب المثل للحاضرين مع ما سمعت نفعًا والحق أنه لا وجه لما ذكره أبو البقاء يعول عليه إلا الذهول.
{وَمَا ظلمناهم} قيل: الضمير للقرى مرادًا بها أهلها وقد أريد منها أولًا حقيقتها، ففي الكلام استخدام، وقيل: الضمير لأهل القرى لأن هناك مضافًا مقدرًا أي ذلك من أنباء أهل القرى؛ والضمائر منها ما يعود إلى المضاف، ومنها ما يعود إلى المضاف إليه، ومتى وضح الأمر جاز مثل ذلك.
وقيل: القرى على ظاهرها وإسناد الأنباء إليها مجاز، وضمير: {مِنْهَا} لها وضمير: {ظلمناهم} للأهل المفهو منها، وقيل: {القرى} مجاز عن أهلها، والضميران راجعان إليها بذلك الاعتبار، أو يقدر المضاف والضميران له أيضًا، وعلى هذا خرج ما حكى عن بعضهم من أن معنى: {مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} [هود: 100] منها باق نسله، ومنها منقطع نسله، وأيًا ما كان ففي الكلام إيذان بإهلاك الأهل فيكون المعنى هنا وما ظلمناهم بإهلاكنا إياهم.
{ولكن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} حيث اقترفوا بسوء استعدادهم ما يترتب عليه ذلك بمقتضى الحكمة: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ} أي ما نفعتهم ولا دفعت بأس الله تعالى عنهم: {التى يَدْعُونَ مِن} أي يعبدونها: {مِن دُونِ الله} أوثر صيغة المضارع لحكاية الحال الماضية أو للدلالة على استمرار عبادتهم لها: {مِن شَئ} أي شيئًا من الإغناء أو شيئًا من الأشياء فما نافية لا استفهامية وإن جوّزه السمين وتعلق عن بما عنده لما فيه من معنى الدفع، و: {مِنْ} الأخيرة صلة ومجرورها مفعول مطلق أو مفعول به للدفع، وقوله سبحانه: {لَّمَّا جَاء أَمْرُ رَبّكَ} أي حين مجيء عذابه منصوب بأغنت وهذا على ما في البحر بناءًا على خلاف مذهب سيبويه لأن مذهبه أن: {لَّمًّا} حرف وجوب لوجوب. وقرئ آلهتهم اللاتي و: {يَدَّعُونَ} بالبناء للمفعول وهو وصف للآلهة كالتي في المشهورة، وفيه مطابقة للموصوف ليست في: {التى} لكن قيل كما في جمع الجوامع للجلال السيوطي إن التي في جمع غير عالم أكثر من اللاتي، نعم إن الآلهة قد عوملت في الآية معاملة العقلاء لأن عبدتها نزلوها منزلة العقلاء في اعتقادهم فيها أنها تنفع وتضر، فقيل: {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} ومن هنا قيل: إن اللاتي في تلك القراءة واقع موقع الآلي أو الذين، والتتبيب على ما في البحر التخسير، يقال: تب خسر، وتببه خسره، وذكر الجوهري أن التب الخسران والهلاك، والتتبيب الاهلاك، وفي القاموس التب، والتبب، والتباب والتتبيب النقص والخسار.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عمر ومجاهد تفسير ذلك بالتخسير، وكذا أخرج الطستي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه عنهما إلا أنه استشهد عليه بقول بشر بن أبي خازم:
هم جدعوا الأنواف فأذهبوها ** وهم تركوا بني سعد (تبابًا)

وحينئذ فالمعنى فما زادوهم غير تخسير أو خسارة لنفوسهم حيث استحقوا العذاب الأليم على عبادتهم لها نسأل الله تعالى العفو والعافية.
{وكذلك} أي مثل ذلك الأخد والإهلاك الذي مر بيانه، وهو على ما قال السمين: خبر مقدم، وقوله سبحانه: {أَخْذُ رَبّكَ} مبتدأ مؤخر، وقيل: بالعكس، والكاف يحتمل أن تكون اسمية وأن تكون حرفية وقد يجعل المشار إليه الأخذ المذكور بعد كما تحقق قبل، وفي قراءة عبد الله كذلك بغير واو.
{إِذَا أَخَذَ القرى} أي أهلها وإنما أسند إليها للإشعار بسريان أثره، وقرأ الجحدري، وأبو رجاء: {وكذلك أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ} على أن: {أَخْذُ رَبّكَ} فعل وفاعل، والظرف لما مضى، وهو إخبار عما جرت به عادة الله تعالى في إهلاك من تقدم من الأمم وكذلك على هذا ساد مسد المصدر النوعي ولا مانع من تقدمه على الفعل والقرى متنازع للمصدر والفعل، وقوله سبحانه: {وَهِىَ ظالمة} في موضع الحال من: {القرى} ولذا أنث الضمير و: {ظالمة} إلا أن وصف القرى بالظلم مجاز وهو في الحقيقة صفة أهلها وجعله حالًا من المضاف المقدر أولًا وتأنيثه مكتسب من المضاف إليه تكلف، وفائدة هذه الحال الأشعار بأن أخذهم بسبب ظلمهم، وفي ذلك من إنذار الظالم ما لا يخفى، والمراد بالظلم إما الكفر أو ما هو أعم، وظاهر صنيع بعضهم أخذًا من إطلاقه أنه شامل لظلم المرء نفسه وغيره: {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ} وجيع: {شَدِيدٍ} لا يرجى منه الخلاص وهذا مبالغة في التهديد والتحذير، أخرج الشيخان في صحيحيهما والترمذي والنسائي وابن ماجه وآخرون عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: {وكذلك أَخْذُ رَبّكَ} إلى قوله تعالى: {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}».
{إِنَّ في ذَلِكَ} أي أخذه سبحانه للأمم المهلكة أو فيما قص من أخبارهم: {لآيَةً} أي لعلامة، وفسرها بعضهم بالعبرة لما أنها تلزمها وهو حسن؛ والتنوين للتعظيم أي لعبرة عظيمة: {لّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخرة} فإنه إذا رأى ما وقع في الدنيا بالمجرمين من العذاب الأليم اعتبر به حال العذاب الموعود فإنه عصا من عصية وقليل من كثير، وانزجر بذلك عن المعاصي التي يترتب عليها العذاب وأكب على التقوى والخشية من الله تعالى، وقد أقيم: {مَنْ خَافَ} إلخ مقام من صدق بذلك لما بينهما من اللزوم ولأن الاعتبار إنما ينشأ من الخوف، وذكر هذا القيد لأن من أنكر الآخرة وأحال فناء هذا العالم أسند الحوادث إلى أسباب فلكية وأوضاع مخصوصة فلم يعتبر بذلك أصل ولم ينزجر عن الضلالة قطعًا، وقال: إن ما وقع إنما وقع لهاتيك الأسباب والأوضاع لا للمعاصي التي اقترفتها الأمم المهلكة.
وقيل: المراد إن فيما ذكر دليلًا على عذاب المجرمين في الآخرة لأنهم إذا عذبوا في الدنيا لإجرامهم وهي دار العمل فلأن يعذبوا في الآخرة عليه وهي دار الجزاء أولى، وقيل: المراد إن فيه دليلًا على البعث والجزاء، وذلك أن الأنبياء عليهم السلام قد أخبروا باستئصال من كذبهم وأشرك بالله ووقع ما أخبروا به وفق إخبارهم، وذلك أحد الشواهد على صدقهم فيكونون صادقين فيما يخبرون به من البعث والجزاء فلابد أن يقع لا محالة، والتقييد بما ذكر هنا كالتقييد في قوله سبحانه: {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] وهو كما ترى: {ذلك} إشارة إلى يوم القيامة المدلول عليه بذكر الآخرة: {يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس} أي يجمع له الناس للمحاسبة والجزاء، فالناس نائب فاعل مجموع.
وأجاز ابن عطية أن يكون مبتدأ و: {مَّجْمُوعٌ} خبره، وفيه بعد إذ الظاهر حينئذ أن يكون مجموعًا وعدل في الفعل وكان الظاهر ليدل الكلام على ثبوت معنى الجمع وتحقق وقوعه لا محالة وأن الناس لا ينفكون عنه فهو أبلغ من قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجمع} [التغابن: 9] وإيضاحه أن في هذا دلالة على لزوم الوصف ولزوم الاسناد، وفي ذلك على حدوث تعلق الجمع بالمخاطبين واختصاصه باليوم ولهذا استدركه بقوله: الجمع فأضاف اليوم إليه ليدل على لزومه له وإنما الحادث جمع الأولين والآخرين دفعة: {وَذَلِكَ} أي يوم القيامة مع ملاحظة عنوان جمع الناس له: {يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} أي مشهود فيه فاتسع في الجار والمجرور ووصل الفعل إلى الضمير إجراءًا له مجرى المفعول به كما في قوله:
قليل سوى طعن الدراك نوافله

أي يشهد فيه الخلائق الموقف لا يغيب عنه أحد وإنما لم يجعل نفس اليوم مشهودًا بل جعل مشهودًا فيه ولم يذكر المشهود تهويلًا وتعظيمًا أن يجرى على اللسان وذهابًا إلى أن لا مجال لالتفات الذهن إلى غيره، وقد يقال: المشهود هو الذي كثر شاهدوه، ومنه قولهم: لفلان مجلس مشهود، وطعام محضور، ولأم قيس الضبية:
ومشهد قد كفيت الناطقين به ** في محفل من نواصي الناس (مشهود)

واعتبروا كثرة شاهديه نظرًا إلى أنه الذي يستحق أن يطلق اسم المشهود على الإطلاق عليه، ولو جعل اليوم نفسه مشهودًا من غير هذا الاعتبار لم يحصل الغرض من تعظيم اليوم وتمييزه فإن سائر الأيام كذلك لكن جاء الامتياز من ذلك لما أضيف إليه من الكثرة المهولة المميزة، وبما ذكر يعلم سقوط ما قبل: الشهود الحضور.
واجتماع الناس حضورهم فمشهود بعد مجموع مكرر.
{وَمَا نُؤَخّرُهُ} أي ذلك اليوم الملحوظ بعنوان الجمع والشهود، ونقل الجو في رجوع الضمير للجزاء.
وقرأ الأعمش ويعقوب {يؤخره} بالياء.
{إِلاَّ لاِجَلٍ مَّعْدُودٍ} أي لانتهاء مدة قليلة، فالعد كناية عن القلة، وقد يجعل كناية عن التناهي، والأجل عبارة عن جميع المدة المعينة للشيء، وقد يطلق على نهايتها، ومنع إرادة ذلك هنا لأنه لا يوصف بالعد في كلامهم بوجه، وجوزها بعضهم بناءًا على أن الكناية لا يشترط فيها إمكان المعنى الأصلي، وتعقب بأنه عدول عن الظاهر، وتقدير المضاف أسهل منه، واللام للتوقيت، وفي المجمع أنها تدل على الغرض وأن الحكمة اقتضت التأخير ولذا عدل عن إلى: {إِلَيْهَا} وفي الآية رد على الدهرية والفلاسفة الزاعمين أنه لا انقضاء لمدة الدنيا، وهو بحث مفروغ منه. اهـ.